من عِبر التأريخ - السيدة طوعة رمز الوفاء والشجاعة


 

السيدة طوعة بطلة الكوفة

كانت امرأة عادية ولكن الولاء لأهل البيت (ع) حوّلها إلى عنصر فعّال في مجتمع خانع انعدمت فيه الإرادة ، وصار الغدر والانقلاب على الأعقاب من أهم سماته، لقد قامت بما لم يقم به الرجال في ذلك الوقت العصيب، فاستحقت بذلك أن يخلّدها التاريخ وتنال وسام نصرة الإمام الحسين (ع) حتى صارت جزءاً من ملحمة الطف الخالدة فلا تجد كتاباً يتحدث عن ثورة الحسين (ع) إلا ويذكرها.

كانت طوعة جارية للأشعث بن قيس، وهو من أصحاب رسول الله (ص) ولكنه ارتدّ وصار خارجياً ملعوناً، وفي رواية الصدوق أنه ممن كتم شهادته في قول رسول الله (ص): ( من كنت مولاه فهذا علي مولاه )، ثم أعتقها فتزوجها أسيد بن مالك وكان أيضاً من خصوم آل محمد وكانت كارهة لهذا الارتباط لأنه من أزلام السلطة الأموية ، لذا عاشت في كنفه حياة تعسة ، لكن عداء هذين الزوجين لأهل البيت (ع) لم يؤثر على ولاء هذه المرأة المؤمنة فقامت بما تخلى عنه ذوو النفوس الضعيفة ، فشعّ نورها في ظلم تلك الفترة الزمنية وكانت خاتمة أمرها شفاعة المصطفى (ص) وجواره في جنان الخلد.

مسلم في الكوفة دخل مسلم بن عقيل (ع) إلى الكوفة سفيراً عن الحسين (ع) وبايعه أهلها حتى وصل عدد من بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً، ولكن وضع الكوفة انقلب رأساً على عقب عندما دخلها عبيد الله بن زياد وقام بعدة إجراءات منها:

1- أنه أمر من عنده من الأشراف أن يشرفوا على الناس من قصره، وذلك بعد أن حاصرهم مسلم بن عقيل وجيشه، فيمنّوا أهل الطاعة بالكرامة والزيادة، ويخوفوا أهل المعصية بالحرمان والعقوبة ففعلوا ذلك، وسلّط شرطته على الناس ليحذروهم من جند الشام القادمين، وأخذ الناس يتفرقون فكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها وتقول : انصرف الناس يكفونك، ويفعل الرجال مثل ذلك، فما زال الناس ينصرفون عن مسلم حتى لم يبق معه إلا ثلاثون رجلاً فصلّى بهم صلاة المغرب، ولما خرج متوجهاً إلى باب المسجد لم يبلغه إلا ومعه منهم عشرة، ثم خرج من الباب وإذا ليس معه إنسان.

2- حذّر الناس من إيواء مسلم حيث أصدر مرسوماً جاء فيه: (برئت الذمة من رجل أصبناه في داره).

3- تخصيص جائزة ثمينة لمن يأتي به: (من أتى بمسلم بن عقيل فله عشرة آلاف درهم، والمنزلة الرفيعة من يزيد بن معاوية وله كل يوم حاجة مقضية) .

4- إلقاء القبض على جماعة من أعوان مسلم مثل المختار الثقفي، وعبد الأعلىالكلبي ، والأصبغ بن نباتة وغيرهم.

5- وضع الشرطة والحرس في سكك الكوفة وأزقتها، كما أمر شرطته بتفتيش الدور وتوعد أعوانه بالعقاب الشديد إذا استطاع مسلم الإفلات.

بقي مسلم بن عقيل (ع) وحيداً بعد تفرق الناس لا يدري إلى أين يتوجّه وإلى أي بيت يأوي، فقرر الاختباء عن أعين السلطات، فمشى وقد بلغ به التعب والإرهاق مبلغاً عظيماً بعد أحداث يوم حافل انقلبت فيه موازين القوى بسرعة لصالح ابن زياد، وبسبب كثرة المراصد التي انتشرت في أزقة الكوفة التي اجتازها بصعوبة وجهد كبيرين، حتى انتهى به المسير إلى باب بيت طوعة فكان دارها هو المأوى والملاذ.

كانت طوعة واقفة على بابها تنتظر ابنها الذي كان مع الناس، فاقترب منها مسلم (ع) وطلب منها الماء، فسقته لكنه لم ينصرف بل بقي واقفاً، لا تطاوعه نفسه أن يطلب منها الإذن بالدخول ولا يعرف مكاناً آخر ينصرف له، والشوارع مليئة بحرس السلطة، وأصحابه الخلّص كانوا في السجون، وعامة الناس قد شلّهم الخوف أو أغراهم المال فنقضوا بيعتهم، وقعدوا عن نصرة الحق، فقط إنسان واحد في مجتمع كامل كان لا يشعر بالخوف ومستعداً لنصرة هذا الوحيد وإيوائه.

طلبت منه المغادرة قائلة: يا عبد الله ألم تشرب الماء؟ فقال مسلم: بلى، فقالت له: اذهب إلى أهلك فسكت، فكررت عليه القول، فهي امرأة عفيفة ومصون تأنف من وقوف أجنبي على بابها، إلى أن قالت له: سبحان الله يا عبد الله قم عافاك الله واذهب إلى أهلك فإنه لا يصحُّ لك الجلوس على بابي ولا أحلّه لك ولأنه رجل مؤمن وتقي؛ فإن عبارة ( لا أحلّه لك ) قد استفزّت تقواه لذا ردّ عليها: يا أمة الله ما لي في هذا المصر أهل ولا عشيرة فهل لك إلى أجر ومعروف؟ ولعلي مكافئك به بعد اليوم، فقالت له: وما ذاك؟ فقال لها: أنا مسلم بن عقيل لقد كذّبني هؤلاء القوم وغرّوني، فقالت له: أنت مسلم؟ قال: نعم، فقالت له: ادخل على الر حب والسعة أدخلته بيتا غير الذي تكون فيه، وفرشت له، وعرضت عليه الطعام إلا إنه لم يأكل واكتفى بالماء.

ورجع ابنها الذي كانت تنتظر عودته، فلاحظ كثرة ترددها على تلك الدار، ألحَّ عليها لتخبره بسرّها، وتحت إلحاحه أخبرته بالحقيقة بعد أن أخذت عليه الأيمان الغليظة أن لا يبوح بالسر لأحد، فنام على جمر ينتظر طلوع الصباح ليفشي سراً أقسم أن لا يفشيه وانتهت وشاية هذا الغادر بمسلم وهو فوق قصر الإمارة المشؤوم، وقد ضرب عنقه الشريف، وأُلقي بجسده من فوق القصر.

السيدة طوعة بعد استشهاد مسلم، بعد استشهاد مسلم أمر ابن زياد بإلقاء القبض على السيدة طوعة وهدم دارها، فجيء بها وهي مكبلة بالحديد وأوقفوها أمامه، فلما رآها قال لها: ما الذي دعاك إلى إيواء مسلم بن عقيل؟، فقالت: كيف لا آوي ابن عم رسول الله، وسفير سيدي الإمام الحسين (ع)، فقال لها ابن زياد: هؤلاء خوارج ، فقالت له بجرأة نابعة من عمق إيمانها وولائها: إن هؤلاء أئمة الدين، وإن الخارجي هو أنت وأبوك، فقال لها: اسكتي أيتها المرأة الضالة، ثم أمر بها إلى السجن، والذي كان يغصُّ بالمئات من المواليات لأهل البيت (ع).

استمر حبسها فترة من الزمن إلى أن تدخل أحد أقاربها ممن كان من أعوان السلطة فأطلق سراحها وخرجت من السجن عليلة هزيلة الجسم ولم يمضِ وقت طويل على خروجها حتى اشتد بها المرض الذي أدّى إلى وفاتها (رضوان الله عليها)، لقد وقفت السيدة طوعة موقفاً واحداً لكنه كان موقفاً مشرفاً ينمُّ عن وعي رسالي، ووضوح في التفكير والرؤية وعمق في الإيمان والولاء لأهل البيت (ع) رغم خطورة المرحلة وشراسة العدو؛ لذا استحقت أن يخلّدها التأريخ كما خلّدهم، واقترن اسمها مع اسم بطل الكوفة مسلم بن عقيل الذي بشّرها عندما هجم عليه جلاوزة السلطة بقوله: نعم لا بد لي من الموت وأنت قد أدّيتِ ما عليك من البرِّ والإحسان، وأخذت نصيبك من شفاعة رسول الله (ص).

إنها امرأة واحدة في مجتمع كان يغص بالرجال ، لكنها حملت المسؤولية ولم تقل كما كان سواها من نساء الكوفة يقلن لرجالهن: انصرفْ الناس يكفونك، بل قامت بواجبها في نصرة الحق فأثبتت أن المواقف العظيمة والخالدة ليست حكراً على الرجال وكما قال الشاعر:

ولو كنّ النساء كمن ذكرنا لفُضّلت النساء على الرجال

فلا التأنيث باسم الشمس عيبُ ولا التذكير فخر للرجالِ

شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا: