﴿كلام في حرمة الزنا﴾


 

قال تعالى :

"  وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً "﴿32﴾  سورة الإسراء


﴿كلام في حرمة الزنا﴾ وهو بحث قرآني اجتماعي

من المشهود أن في كل من الزوجين من الإنسان أعني الذكر والأنثى إذا أدرك وصحت بنيته ميلا غريزيا إلى الآخر وليس ذلك مما يختص بالإنسان بل ما نجده من عامة الحيوان أيضا على هذه الغريزة الطبيعية. 

وقد جهز بحسب الأعضاء والقوى بما يدعوه إلى هذا الاقتراب والتمايل والتأمل في نوع تجهيز الصنفين لا يدع ريبا في أن هذه الشهوة الطبيعية وسيلة تكوينية إلى التوالد والتناسل الذي هو ذريعة إلى بقاء النوع، وقد جهز بأمور أخرى متممة لهذه البغية الطبيعية كحب الولد وتجهيز الأنثى من الحيوان ذي الثدي باللبن لتغذي طفلها حتى يستطيع التقام الغذاء الخشن ومضغه وهضمه فكل ذلك تسخير إلهي يتوسل به إلى بقاء النوع. 

ولذلك نرى أن الحيوان مع عدم افتقاره إلى الاجتماع والمدنية لسذاجة حياته وقلة حاجته يهتدي حينا بعد حين بحسب غريزته إلى الاجتماع الزوجي - السفاد - ثم يلتزم الزوجان أو الأنثى منهما الطفل أو الفرخ ويتكفلان أو تتكفل الأنثى تغذيته وتربيته حتى يدرك ويستقل بإدارة رحى حياته. 

ولذلك أيضا لم يزل الناس منذ ضبط التاريخ سيرهم وسننهم تجري فيهم سنة الازدواج التي فيها نوع من الاختصاص والملازمة بين الرجل والمرأة لتجاب به داعية الغريزة ويتوسل به إلى إنسال الذرية، وهو أصل طبيعي لانعقاد المجتمع الإنساني فإن من الضروري أن الشعوب المختلفة البشرية على ما لها من السعة والكثرة تنتهي إلى مجتمعات صغيرة منزلية انعقدت في سالف الدهور. 

وما مر من أن في سنة الازدواج شيء من معنى الاختصاص هو المنشأ لما كان الرجال يعدون أهلهم إعراضا لأنفسهم ويرون الذب عن الأهل وصونها من تعرض غيرهم فريضة على أنفسهم كالذب عن أنفسهم أو أشد، والغريزة الهائجة إذ ذاك هي المسماة بالغيرة وليست بالحسد والشح. 

ولذلك أيضا لم يزالوا على مر القرون والأجيال يمدحون النكاح ويعدونه سنة حسنة ممدوحة، ويستقبحون الزنا وهو المواقعة من غير علقة النكاح ويستشنعونه في الجملة ويعدونه إثما اجتماعيا وفاحشة أي فعلا شنيعا لا يجهر به وإن كان ربما وجد بين بعض الأقوام الهمجية في بعض الأحيان وعلى شرائط خاصة بين الحرائر والشبان أو بين الفتيات من الجواري على ما ذكر في تواريخ الأمم والأقوام. 

وإنما استفحشوه وأنكروه لما يستتبعه من فساد الأنساب وقطع النسل وظهور الأمراض التناسلية ودعوته إلى كثير من الجنايات الاجتماعية من قتل وجرح وسرقة وخيانة وغير ذلك وذهاب العفة والحياء والغيرة والمودة والرحمة.

غير أن المدنية الغربية الحديثة لابتنائها على التمتع التام من مزايا الحياة المادية وحرية الأفراد في غير ما تعتني به القوانين المدنية سواء فيه السنن القومية والشرائع الدينية والأخلاق الإنسانية أباحته إذا وقع من غير كره كيفما كان، وربما أضيف إلى ذلك بعض شرائط جزئية أخرى في موارد خاصة، ولم تبال بما يستتبعه من وجوه الفساد عناية بحرية الأفراد فيما يهوونه ويرتضونه والقوانين الاجتماعية تراعي رأي الأكثرين. 

فشاعت الفاحشة بين الرجال والنساء حتى عمت المحصنين والمحصنات والمحارم حتى كاد أن لا يوجد من لم يبتل به وكثر مواليدها كثرة كاد أن تثقل كفة الميزان وأخذت تضعف الأخلاق الكريمة التي كانت تتصف بها الإنسانية الطبيعية وترتضيها لنفسه بتسنين سنة الازدواج من العفة والغيرة والحياء يوما فيوما حتى صار بعض هذه الفضائل أضحوكة وسخرية، ولو لا أن في ذكر الشنائع بعض الشناعة ثم في خلال الأبحاث القرآنية خاصة لأوردنا بعض ما نشرته المنشورات من الإحصاءات في هذا الباب.

والشرائع السماوية على ما يذكره القرآن الكريم - وقد مرت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآيات 151 - 153 من سورة الأنعام - تنهى عن الزنا أشد النهي وقد كان محرما في ملة اليهود ويستفاد من الأناجيل حرمته. 

وقد نهي عنه في الإسلام وعد من المعاصي الكبيرة وأغلظ في التحريم في المحارم كالأم والبنت والأخت والعمة والخالة، وفي التحريم في الزنا، مع الإحصان وهو زنا الرجل وله زوجة والمرأة ذات البعل، وقد أغلظ فيما شرع له من الحد وهو الجلد مائة جلدة والقتل في المرة الثالثة أو الرابعة لو أقيم الحد مرتين أو ثلاثا والرجم في الزنا مع الإحصان.

وقد أشار سبحانه إلى حكمة التحريم فيما نهى عنه بقوله: ﴿ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا﴾حيث عده أولا فاحشة ثم وصفه ثانيا بقوله: ﴿وساء سبيلا﴾ والمراد - والله أعلم - سبيل البقاء كما يستفاد من قوله: ﴿ءإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل﴾ العنكبوت: 29، أي وتتركون إتيان النساء الذي هو السبيل فتنقطع بذلك وليس إلا سبيلا للبقاء من جهة تسببه إلى تولد المواليد وبقاء النسل بذلك، ومن جهة أن الازدواج وعقد المجتمع المنزلي هو أقوى وسيلة يضمن بقاء المجتمع المدني بعد انعقاده. 

فمع انفتاح باب الزنا لا تزال الرغبات تنقطع عن النكاح والازدواج إذ لا يبقى له إلا محنة النفقة ومشقة حمل الأولاد وتربيتها ومقاساة الشدائد في حفظها والقيام بواجب حياتها والغريزة تقنع من سبيل آخر من غير كد وتعب، وهو مشهود من حال الشبان والفتيات في هذه البلاد، وقد قيل لبعضهم: لم لا تتزوج؟ فقال: وما أصنع بالازدواج وكل نساء البلد نسائي، ولا يبقى حينئذ للازدواج والنكاح إلا شركة الزوجين في مساعي الحياة الجزئية غير التناسل كالشركة في تجارة أو عمل ويسرع إليهما الافتراق لأدنى عذر، وهذا كله مشهود اليوم في المجتمعات الغربية.

ومن هنا أنهم يعدون الازدواج شركة في الحياة منعقدة بين الزوجين الرجل والمرأة وجعلوها هي الغاية المطلوبة بالذات من الازدواج دون الإنسال وتهيئة الأولاد ولا إجابة غريزة الميل الطبيعي بل عدوا ذلك من الآثار المترتبة عليه إن توافقا على ذلك وهذا انحراف عن سبيل الفطرة والتأمل في حال الحيوان على اختلاف أنواعه يهدي إلى أن الغاية المطلوبة منه عندها هو إرضاء الغريزة الهائجة وإنسال الذرية وكذا الإمعان في حال الإنسان أول ما يميل إلى ذلك يعطي أن الغاية القريبة الداعية إليه عنده هو إرضاء الغريزة ويعقبه طلب الولد. 

ولو كانت الغريزة الإنسانية التي تدفعه إلى هذه السنة الطبيعية إنما تطلب الشركة في الحياة والتعاون على واجب المأكل والمشرب والملبس والمسكن وما هذا شأنه يمكن أن يتحقق بين رجلين أو بين امرأتين لظهر أثره في المجتمع البشري واستن عليه ولا أقل في بعض المجتمعات في طول تاريخ الإنسان وتزوج رجل برجل أحيانا أو امرأة بامرأة ولم تجر سنة الازدواج على وتيرة واحدة دائما ولم تقم هذه الرابطة بين طرفين أحدهما من الرجال والآخر من النساء أبدا. 

ومن جهة أخرى أخذ مواليد الزنا في الإزدياد يوما فيوما يقطع منابت المودة والرحمة وتعلق قلوب الأولاد بالآباء ويستوجب ذلك انقطاع المودة والرحمة من ناحية الآباء بالنسبة إلى الأولاد وهجر المودة والرحمة بين الطبقتين الآباء والأولاد يقضي بهجر سنة الازدواج للمجتمع وفيه انقراضهم وهذا كله أيضا مما يلوح من المجتمعات الغربية. 

ومن التصور الباطل أن يتصور أن البشر سيوفق يوما أن يدير رحى مجتمعه بأصول فنية وطرق علمية من غير حاجة إلى الاستعانة بالغرائز الطبيعية فيهيأ يومئذ طبقة المواليد مع الاستغناء عن غريزة حب الأولاد بوضع جوائز تسوقهم إلى التوليد والإنسال أو بغير ذلك كما هو معمول بعض الممالك اليوم فإن السنن القومية والقوانين المدنية تستمد في حياتها بما جهز به الإنسان من القوى والغرائز الطبيعية فلو بطلت أو أبطلت انفصم بذلك عقد مجتمعه، وهيئة المجتمع قائمة بأفراده وسننه مبنية على إجابتهم لها ورضاهم بها وكيف تجري في مجتمع سنة لا ترتضيها قرائحهم ولا تستجيبها نفوسهم ثم يدوم الأمر عليه. 

فهجر الغرائز الطبيعية وذهول المجتمع البشري عن غاياته الأصلية يهدد الإنسانية بهلاك سيغشاها ويهتف بأن أمامهم يوما سيتسع فيه الخرق على الراقع وإن كان اليوم لا يحس به كل الإحساس لعدم تمام نمائه بعد.

ثم إن لهذه الفاحشة أثرا آخر سيئا في نظر التشريع الإسلامي وهو إفساده للأنساب وقد بني المناكح والمواريث في الإسلام عليها.

شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا: