كيف تكونين أنثى قوية؟

 

كيف تكونين أنثى قوية؟ 

وما القوة التي تحتاجها المسلمة؟

بينما ما يزال غزو الأيديولوجيا النسوية مستمراً وواضح الأثر في مجتمعاتنا، نجد اليوم على النقيض من الذين تبنّوا النسوية وسعَوا للانطواء تحت جناحها الخبيث، فريقًا آخر من الفتيات بتن يخشين التشبّه بأي صفة تضمّنتها دعاوى النسوية خوفاً من محض الاقتراب منها أو تقليدها، والإشكال في ذلك يكمن في أنّ النسوية نادت بشعارات مبهمةٍ وعامة كثيرة لا يتوجّب على المسلمات تجنّب جلّها والخوف منها لمحض أنّ النسوية رفعتها خداعاً للنساء واستدراجاً لهنّ إلى صفوفها.

في هذا المقال أتحدث عن صفة القوة التي ينبغي أن تمتلكها المسلمة؛ إذ رغم رفضنا للنسوية، إلا أن رفعها لفكرة القوة وتصويرها للمرأة المثالية على أنها “strong independent woman”؛ لا ينبغي أن يرهبنا نحن المسلمين من القوة، إذ هو مفهوم نحتاجه في نساء ورجال أمتنا، كما يجدر أن ننادي بامتلاك القوة المنضبطة التي يحبها الله سبحانه؛ إذ إن (المؤمن القويّ خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير) [حديث نبوي]. ولتكون القوة التي نتحدث عنها هي تلك التي يرضى الله عنها، وبالتالي يجب أن تنضبط وفق مراده سبحانه، فلا نقبل منها ولا نرفض إلا ما ذُكر في ضوء وحيه، ولا نسعى للاتصاف بها إلا تقرباً إليه وسعياً لنيل محبته.

من أنتِ في ميزان الوحي؟

قبل الحديث عن القوة المطلوبة في الأنثى وسُبُل تحصيلها، لنعد خطوة إلى الوراء باحثين عن هويّة الفتاة المسلمة وتعريفها في ضوء الوحي المنزّه الشريف. فنحن إماءٌ لله أولاً، خلقنا تبارك وتعالى والذكورَ من نفس واحدة لتكون خليفةً في أرضه، وهي تلك النفس المخلوقة من طينٍ لازبٍ، حيث نُفِخت الروح فيها بغير اختيار منها، ثم إن الله استرعاها في الأرض وابتلاها وكلّفها، ووعدها بعد كلِّ ذلك رجوعاً إليه ومحاسبةً على ما كان وأجراً بحسب ما أمَر وما عملت في هذه المدة التي حدد لها على وجه الأرض. قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1].

ولتلك النفس البشرية صفات عامةٌ يشترك فيها الذكور والإناث كما ورد في كتاب الله وعلى لسان نبيه، وكما يقتضيه كونها مخلوقةٌ مملوكةٌ لمولاها، لا تملك ذاتها ولا نشأتها ولا مماتها، ومن ذاك النقص والحاجة والضعف والفقر، وكذلك النسيان والعجلة والهلع وحب الشهوات وكثرة الجدل، ومع وجود هذه الصفات الأصيلة في النفس فإن تزكيتها بتطهيرها من الكفر والمعاصي وإصلاحها بما يرضي الله، وتنقيتها من الذنوب ورفعها بالعلم هي طرق النجاة ومفاتحه، كما بيّن سبحانه إذ قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9].[1]

أما فيما تختص به المرأة المسلمة عن الرجل بعد كونها شقيقةً له مكلّفةً ومسؤولةً مثله، فإنَّ ذلك يتضمّن بعض الصفات المتعلقة بالأنوثة، والاختلافات التي لديها نفسياً وفيزيولوجيًّا عن الرجل ليكونَ كلٌّ منهما مكمّلًا للآخر ومتممًا له، بلا تقابل أو تنافر، ولتكون الحاجة الفطرية الطبيعية ممكنة بينهما، كما خلق الله الخلق جميعاً وفق هذه الثنائية {ومن كلِّ شيءٍ خلقنا زَوجين} [الذاريات: 49][2]، ولله في ذلك حكم كثيرةٌ يظهر بعضها في حدوث السكن والمودة والرحمة بين الزوجين وكذلك الرغبة في دوام الالتقاء وضمان استمرار الحياة.

ومع وجود الاختلافات، إلا أنّ الخطاب القرآني للمرأة انطلق من مبدأ الخطاب الكلي للإنسان منذ كان خطاب الوجود الأول للنفس الإنسانية، فكان التكليف الكوني العجيب بالأمانة التي حملها الإنسان بعد أن أشفقت منها السماوات والأرض والجبال، فتصدّر الإنسان، وخوطب باعتباره عاملاً سواء كان رجلاً أو أنثى لا فرق بينهما في المسؤولية الوجودية من حمل الأمانة الكبرى {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بعضكُم مِّن بَعْضٍ} [آل عمران: 195].[3] ومن هنا كانت القوة التي يحبّ الله المؤمن المتصف فيها مطلوبة في الذكر وفي الأنثى طالما أنها منضبطة بميزان الشريعة وتسعى لرضوان المولى وحده.

لا يليق بالمسلمة الانهزام!

إن الحديث عن القوة النفسيّة للمرأة ينطلق من كونها فرداً في المجتمع المسلم لا ينفكّ أو ينعزل عنه؛ إذ تحمل في ذاتها صفات المؤمن الراسخ، لا تهزّه نسمة ريحٍ ولا تؤثر فيه كلمة أو شبهة عارضة، فلا يليق بالمؤمنة مثلاً أن تجهل الأحكام المتعلقة بالنساء والتي تحتاجها في حياتها اليومية، ولا يناسبها أن تحمل شبهات لا تعرف ردها ولا تعي خطرها، كما لا يستوي أن تعرف أخبار الموضة وفنون الطبخ وترتيب البيت والعناية بالجمال، وتجهل إجابات الأسئلة التي تتردد في ذهنها كل حينٍ عن مكانتها في شرع الله وخطابه سبحانه لها، وتغفل عن معنى الآيات والأحاديث المركزية في هذا السياق.


مع انفتاح مصادر كثيرةٍ للشكوك والشبهات على النفوس في هذه الأيام، فإن الحاجة لتلك القوة باتت أكبر وأكثر إلحاحاً، خصوصاً والأنثى غالباً ما تكون عرضةً لكثير من التيّارات الفكرية والشبهات العقدية التي تستغل نفسيتها وعواطفها، فهذا يشعرها بالفشل لأنها اختارت عدم العمل خارج بيتها، وذاك ينتقص منها باستخدام حديثٍ لا يفهمه، وذاك يتهمها بالنسوية لأنها بفطرتها الطبيعية لا تحب أن يكون لزوجها زوجة أخرى، والقائمة تطول مما قد يرد على المرأة خلال دقائق معدودةٍ من الإمساك بهاتفها المحمول.

ولما كان الجهل يولّد الخوف، والخوف بدوره ينتج شخصيةً ضعيفةً مهزوزة ومنهزمة[4]، كان طلب العلم أول وأهم طرق الوصول إلى القوة المطلوبة، فالمسلمة التي أكرم الله وتفضل عليها بالإيمان ينبغي أن تعبده سبحانه على علمٍ وفهمٍ وثبات كشجرة عميقة الجذور في تربة الإيمان، ثمرها طيبٌ في كل كلمة تصدر منها وكل فعل، تعرف قدرها في دين الله ولا تثنيها تقلبات الزمان وتغيرات الأحوال عن غايتها والدرب الذي تسلك، فلا تأخذ دور الضحية أمام أمواج الشبهات الهائجة، ولا تقف تنتظر رأي الآخرين بها وتقويمهم لها، إنما هدفها مسدَّد، وعينها مثبَّتة عليه على الدوام، كما وصفها د. فريد الأنصاري: “إنما الفتاة المؤمنة هي التي ترفع راية الإسلام بلباسها الشرعي وخلقها الاجتماعي، فلا تفتنها الأضواء الفاضحة، ولا الدعايات الكاشفة، بل تجاهد في الله من أجل بناء قيم الإسلام في المجتمع من جديد وتسعى لطلب العلم بدينها وتعلّم شرائع ربها، للعمل بها في نفسها أولاً ثم تعليمها لغيرها؛ فكانت مثال الصلاح والتقوى والعفاف، ومنار الهداية لجيلها وللجيل الذي يتربى على يدها”[5].

وقد كان الحرص على العلم ونشره حاضراً جلياً في سيرة المسلمات الصحابيات في الصدر الأول للإسلام رضوان الله عليهن، وقد رَوَت أم سلمة رضي الله عنها: (كُنت أسمع الناس يذكرون الحوض ولم أسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان يوماً من ذلك والجارية تمشُطني فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيُّها الناس. فقلت للجارية: استأخري عني. قالت: إنَّما دعا الرجال ولم يدعُ النساء. فقلت: إنِّي من الناس). [رواية معتبرة].

كيف نصل للقوة المطلوبة؟

إضافةً لطلب العلم، فإن من المهم معرفة النفس وتقديرها، وفهم مواطن القوة والضعف فيها، انطلاقاً من الوحي أولاً، ثم من التبصّر بها ومراقبتها ودراسة احوالها وتقلباتها، وكذلك كان المسلمون الأوائل  يحاسبون نفوسهم ويزنون أعمالهم، حتى إن أحدهم يلحظ من ذاته أدنى بعدٍ أو تغيّرٍ أو حاجةٍ للتزكية.

ومن نتائج معرفة النفس تجنب مقارنتها بالآخرين وتقييمها بحسب مكانها بينهم، خصوصاً إن كانت المقارنة دنيوية أو في أمور لا يعلم بواطنها إلا الله، ومع مشاركة الناس كثيراً من خصوصياتهم على مواقع التواصل اليوم، وقدرة أي منا على الاطلاع على أخبار وقصص الملايين ببضع نقرات، فإن ذلك صار أكثر إتعاباً للنفس وأدعى لأن تغلق تلك البوابات عن ذاتها، فرغم أن المرء قد ينشط بالاطلاع على اجتهاد أقرانه، إلا أن جلد الذات بسبب قصورها عن بلوغ ما يفعل غيرها ليس بسبيلٍ صحيح، فالسائرون إلى الله مختلفون فيما يوفّقون له من أعمال، وطاقات كلّ منهم والمسافة التي قطعها في طريقه متفاوتة كذلك، فينبغي توجيه النظرة نحو الاستزادة مما يحب الله من الأعمال، مع اعتبار محدودية النفس وخصوصياتها ليتحول الجلد جرداً.

وإن كان ذاك مما يضبط مقارنة العبادات، فما بالك بمن يتعب نفسه بالنظر لما لدى غيره من متع الدنيا وقد نهى الله صراحةً عن مد العين إلى ما تمتع به غيرنا في هذه الدنيا الفانية؟

ومع التبصّر والامتناع عن المقارنات تتمرّن النفس تدريجيًّا على التركيز على رضا الله وعدم التعلّق أو الانشغال بالخلق، فيكون توجّهها مطلقاً لله، وتصير منافستها مع ذاتها أولاً لتتجاوز عيوبها وشهواتها وأهوائها، فتنضبط معاييرها بما يرضي الله، ولا تتأثر بقول الناس عنها أو رأيهم بسعيها بعد ذلك، لأنها لم تسعَ لنيل رضاهم أساساً، فتتمكن بالتالي من السؤال والتعبير والإبانة عن حاجاتها والقيام بما أمر مولاها بغض النظر عن محيطها.

ختاماً، أقول لكلّ فتاةٍ تقرأ هذه الكلمات، لا نريدكِ نسويّة مبغضةً لنفسها ومحدوديتها، ولا متمردة على خالقها تعيسةً في دنياها، وساعيةً لكسر كل ما هو نمطيٌّ بغض النظر عن ماهيته وواضعه، بل إننا نريدك مؤمنة قويّة صلبة حازمة ثابتة غير جاهلة ولا مهزوزة، تعلمين ما لكِ وما عليكِ، وتنضبطين بشرع الله القويم وتنعتقين من الجاهليات قديمها وحديثها في سبيل التقرب إلى الله ونيل محبته ورضاه.


[1] تفسير السعدي وتفسير الطبري.

[2] أ. د. محمود بن أحمد بن صالح الدوسري، التمايز العادل بين الرجل والمرأة في الإسلام، دار ابن الجوزي. ص29

[3] د. فريد الأنصاري، سيماء المرأة في الإسلام بين النفس والصورة. ص35-36

[4] د. عبد الرحمن ذاكر الهاشمي، دورة فقه النفس، اقرأ.

[5] د. فريد الأنصاري، سيماء المرأة في الإسلام بين النفس والصورة. ص 15


شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا: