مكانة الكريم عند الله

 

د.أمل الأسدي ||

 

يحدثنا القرآن الكريم عن الإنفاق وفلسفته، فهو  ليس بأمرٍ هيّن ومستساغ بالنسبة للإنسان الذي  يحب المال ويسعی إلی جمعه: ((وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا۞وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا))(١) فهو  زينة حياة الإنسان وفرحته كما قال تعالی مقدما إياه علی البنين: ((الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ))(٢) وصوّر البخيل في القرآن الكريم أبشع تصوير، وبيّن غايته من جمع المال، وتفكيره ونفسيته ودواخله؛ لأن البخل رذيلة خلقية، وصفة مذمومة، من ذلك قوله تعالی: ((... وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ۞يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ))(٣)

 وتحدث القرآن عن الوليد بن  المغيرة واصفا حاله، متوعدا إياه: ((وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ۞ الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ ۞ يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ ۞كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ۞ وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ ۞نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ۞ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ۞إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ۞ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَة))(٤) الذي كان يؤذي رسول الله ويسخر منه، ويستهين به وبالقرآن الكريم، ويتفاخر عليه بأمواله وبنينه، فلن يمنحه المال الخلود، ومصيره الموت والحساب؛ لذا سينبذه الله في نار الحطمة، ولن تغني عنه أمواله التي جمعها ولا أولاده، جزاء نفاقه وهمزه ولمزه وتفاخره وإيذائه للرسول(صلی الله عليه وآله)(٥)

فنلاحظ كيف صار المال بابا من أبواب جهنم.

وفي مقابل صور البخل والتقتير، تحدث القرآن الكريم عن الإنفاق وفلسفته واختار التشبيه كي يصوّر أهميته، وعائديته علی المنفق ومن ذلك قوله تعالی: (( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ))(٦)

 وفي هذا التشيه التمثيلي؛ شبه الله سبحانه تعالى المنفقين أو ما ينفقونه في سبيل الله بالحبة التي تنبت سبع سنابل ، أي نفقتهم كمثل حبة، أو هم كمثل باذر حبة والمنبت هو الله، وهذه الحبة تخرج ساقاً يتشعب منه سبع شعب وفي كل شعبة مئة حبة، وذلك ليبين الله تعالى ويصور الأضعاف في النفقة التي ينفقونها في سبيله (٧)، فالمتصدق كالزراع الذي يتقن عمله ويكون بذره جيداً؛ فتكون الأرض عامرةً ويكثر الزرع فيها، واختار الله تعالی تشبيه عملية الإنفاق بعملية الزرع والإنبات والحصاد -غالبا- لترسيخ فكرة عودة المُنفَق علی المنفِق بالمنفعة المادية والمعنوية، الدنيوية والأخروية، فالإنفاق والكرم تربية عملية للنفس وإصلاح للمجتمع، وهما قيمة أخلاقية رفيعة ترفع صاحبها وتمنحه خلود الذكر، وتعبّد طريقه الی الجنة، شريطة أن يكون كرمه غير متبوع بالمن والأذی(٨) وإذا تحدثنا عن إدخال الفرح علی الإنسان، فنجد أبهی صوره في إغاثته وقضاء حاجته في وقت الشدة،  وقد قال رسول الله(صلی الله عليه وآله): ((من مشى في عون أخيه ومنفعته فله ثواب المجاهدين في سبيل الله))(٩) وكذلك قال: ((أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ تعالى أنفعُهم للناسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ، أو تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعًا، ولأَنْ أمشيَ مع أخ في حاجةٍ، أَحَبُّ إليَّ من أن أعتكِفَ في هذا المسجدِ ـ يعني مسجد المدينةـ

... ومن مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى أثبتها له، أثبتَ اللهُ عز وجل قدمَه على الصراط يوم تزل فيه الأقدامُ))(١٠)

وخير من مثّل ذلك وقام به، وجسّده عمليا حتی اقترن اسمه بالكرم هو الإمام الحسن المجتبی، فقد لُقّب بـ(كريم أهل البيت) فقد ورد أنه(ع) " خرج من ماله مرتين، وقاسم الله ماله ثلاث مرات حتى أنه كان ليعطي نعلا ويمسك نعلا ويعطي خفا ويمسك خفا،

وورد عنه أيضا أنه حج خمسا وعشرين حجة ماشيا، وإن النجائب لتقاد معه، وقد قاسم الله مرتين حتى أن كان ليعطي النعل ويمسك النعل، ويعطى الخف ويمسك الخف(١١) فهو صورة حية، عميلة جسدت فلسفة الإنفاق الإسلامية، فضلا عن أنه  غصن محمدي علوي طالبي هاشمي، ورث عن أجداده الكرم والجود والإيثار، فهو هاشم بن عبد مناف في بيته المفتوح للضيوف واجتماع الناس، وهو عبد المطلب في نبذه الزبيب والتمر بالماء وسقاية الحجيج(١٢) وهو أبو طالب الذي يؤثر علی نفسه وعياله، ويذكر أن قريشاً كانت تطعم، فإذا أطعم (أبو طالب) لم يطعم يومئذٍ أحد غيره!!(١٣)

وهو رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء الذين: ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا۞

إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ۞ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ۞ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا))(١٤) لهذا خلّد الله سيرته العطرة التي ورثت رحيق الكرم الهاشمي، وخلّد ذكره؛ لأنه مدرسة تربوية اجتماعية، تُعلّم الإيثار والكرم والشجاعة وسماحة النفس، وهو الإسلام بصورته الحضارية المشرقة، ولاعجب أن يحتفي الكبار الصغار بذكری  ولادته، إذ امتد احتفاء الرسول بقدومه من لحظته، منذ الخامس عشر من  شهر رمضان في العام الثالث الهجري حتی هذه اللحظة!!

فمازالت الفرحة تعم البيوت ومازال الأطفال يرتدون أجمل ملابسهم، ويقصدون بيوت المحلة وينادون ماجينا وقريقعان، ومازلنا واقفين بقلوبنا عند باب الرسول(صلی الله عليه وآله) كي نشاركه فرحته بقدوم ابنه الحسن المجتبی، حتی وكأننا نسمع صوته وهو يعق عنه بيده ويقول: ( بسم الله عقيقة عن الحسن،اللهم، عظمها بعظمه، ولحمها بلحمه، ودمها بدمه وشعرها بشعره، اللهم اجعلها وقاء لمحمد وآله).(١٥) اللهم، أوصل فرحتنا وتحيتنا إلی رسولك الكريم محمد(صلی الله عليه وآله) وبلغه تهنئتنا كما  أرسلت جبرئيل(ع) حاملا التهنئة والتسمية حين ولادة الإمام الحسن.

شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا: